سرعة الضوء كانت لقرون موضوعًا للنقاش بين العلماء والفلاسفة. هل هي سرعة لانهائية أم أنها محدودة؟ استغرق الأمر قرونًا من التفكير والتجارب العلمية لحسم هذا السؤال، لتُصبح سرعة الضوء واحدة من أهم الثوابت الفيزيائية.
الافتراضات الأولى: الضوء ذو سرعة لانهائية؟
في العصور القديمة، كان يُعتقد أن الضوء ينتقل بسرعة لانهائية. حتى العلماء البارزون مثل أرسطو دافعوا عن هذه الفكرة. لاحقًا، في القرن السابع عشر، تحدّى علماء مثل جاليليو جاليلي هذا الافتراض وحاولوا قياس سرعة الضوء عمليًا.
أول محاولة لقياس سرعة الضوء
جاليليو كان أول من حاول قياس سرعة الضوء تجريبيًا. قام بتجربة بسيطة:
1. وقف مع مساعده على قمتين متقابلتين يفصل بينهما مسافة معلومة.
2. حمل كل منهما مصباحًا مغطى.
3. عندما كشف جاليليو المصباح، كان على مساعده كشف مصباحه فورًا عند رؤية الضوء.
4. حاول جاليليو قياس الزمن بين كشف المصباحين.
لكن النتائج كانت غير حاسمة؛ لأن سرعة الضوء كانت كبيرة جدًا بالنسبة لوسائل القياس البدائية آنذاك.
قياس سرعة الضوء باستخدام الفلك: تجربة أول رومر (1676)
أول رومر، عالم فلك دنماركي، كان أول من قدّم دليلًا تجريبيًا على أن الضوء له سرعة محدودة. أثناء مراقبته لأقمار كوكب المشتري، لاحظ:
1. أن توقيت ظلال أقمار المشتري على الكوكب يتغير اعتمادًا على موقع الأرض بالنسبة للمشتري.
2. عندما تكون الأرض في أبعد نقطة عن المشتري، تتأخر ظلال الأقمار مقارنة بالتوقعات.
3. استنتج أن هذا التأخير يحدث لأن الضوء يستغرق وقتًا أطول ليصل إلى الأرض.
حساب رومر:
قاس التأخير بحوالي 22 دقيقة.
ربط هذا التأخير بالمسافة الإضافية التي يقطعها الضوء عندما تكون الأرض في أبعد نقطة عن المشتري (ضعف قطر مدار الأرض).
رغم أن حساباته لم تكن دقيقة تمامًا بسبب افتقاره لقيمة دقيقة لقطر مدار الأرض، كانت تجربته أول دليل علمي على أن الضوء له سرعة محدودة.
قياس أكثر دقة: تجربة فيزو (1849)
في القرن التاسع عشر، حقق العالم الفرنسي أبولونيو فيزو تقدمًا كبيرًا في قياس سرعة الضوء باستخدام أدوات أكثر دقة.
1. استخدم جهازًا يحتوي على عجلة مسننة تدور بسرعات عالية.
2. أرسل شعاع ضوء عبر أسنان العجلة باتجاه مرآة بعيدة تعكس الضوء.
3. عند دوران العجلة بسرعة معينة، لاحظ أن الضوء المنعكس يعود في وقت يتزامن مع حركة الأسنان.
4. باستخدام المسافة بين العجلة والمرآة وسرعة دوران العجلة، تمكن فيزو من حساب سرعة الضوء بدقة أكبر.
النتيجة: قدر فيزو سرعة الضوء بحوالي \( 313,000 \) كيلومتر في الثانية، وهي قيمة قريبة جدًا من القيمة الحديثة.
التطور النهائي: تجربة فوكو (1862)
ليون فوكو، عالم فرنسي آخر، استخدم تقنية تعتمد على المرايا الدوارة بدلاً من العجلة المسننة.
أرسل شعاع ضوء نحو مرآة دوّارة ومرآة ثابتة بعيدة.
لاحظ انحراف الضوء المنعكس بسبب دوران المرآة.
استنتج سرعة الضوء من زاوية الانحراف والمسافة بين المرايا.
النتيجة: قدّر فوكو سرعة الضوء بحوالي \( 299,796 \) كيلومتر في الثانية، وهي قريبة جدًا من القيمة الحديثة المعروفة اليوم.
القياس الدقيق الحديث
اليوم، تُقاس سرعة الضوء باستخدام تقنيات تعتمد على الليزر وساعات ذرية دقيقة. وقد حُددت قيمتها رسميًا بأنها \( 299,792,458 \) مترًا في الثانية، وهي ثابتة في الفراغ.
قياس سرعة الضوء كان إنجازًا علميًا كبيرًا تطور على مر العصور، بدءًا من تجارب جاليليو البسيطة، مرورًا بتجارب رومر الفلكية، وصولًا إلى فيزو وفوكو الذين استخدموا تقنيات أكثر تقدمًا. هذه الرحلة العلمية لم تكن فقط قياسًا للسرعة، بل فتحًا لآفاق جديدة لفهم الزمن والمكان، مما مهد الطريق لنظرية النسبية الخاصة وتطبيقات عديدة في الفيزياء والعلوم الحديثة.